المقال الأول من سلسلة مقالات يكتبها الباحث والكاتب: محمد فال ولد سيدنا
ويتعاق بموسيقى (جامع آنكاره) بصفة عامة.
إن الثقافة الموسيقية هي علم صحيح له ارتباط وثيق بالكثير من العلوم الراقية، ومن جهة أخرى فإن التدوين الموسيقي هو الطريقة الأنسب لإعطاء صورة حقيقية وراقية عن هذا الفن. فمن ذلك يمكن أن تتوارثه الأجيال بعد الأخرى بدون تحريف، وأن يعزف ويقرأ ويكتب عنه،
إذ أن موسيقى بدون تدوين كلغة بدون كتابة. وفي هذا الإطار، عمدنا إلى وضع سلسلة مداخلات حول الثقافة الموسيقية الموريتانية، والتى تعرضت -عبر تاريخها الطويل- لنسيان واسع وعزوف بدأت أماراته تظهر متمثلة في هجر الكثير من أبناء المجتمع للاستماع لها متخذا الألوان الموسيقية الأخرى -عربية كانت أو أجنبية - بديلا لها نتيجة عدم استيعابهم للمطبق منها في ظل غياب النظري المقروء.
وسنحاول في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، الوقوف عند بعض التفاصيل الموسيقية الهامة والتي لا يدركها إلا المتخصصون، وبناء عليه قدمنا تعريفات وإيضاحات لمختلف مصطلحات ومفاهيم هذا الفن، بالإضافة إلى الوقوف بإسهاب عند مقاماته وموافقاتها الأدبية ومتعلقاتها من آلات موسيقية وفنية، كما ألقينا نظرة على الأصول التاريخية لهذه الموسيقى وأبرز مراحلها في المحيط الموريتاني، بدءا من نشأتها في القديم إلى واقعها في عهدنا اليوم.
السلم الموسيقي الحساني وما يغنى فيه
ينقسم السلم الموسيقي إلى خمس مقامات أساسية مرتبة حسب ما يلي وهي: (كر، فاغو، لكحال، لبياظ، لبتيت) سنتناولها فيما يلي مفصلة حسب الترتيب:
1- كَر:
هو المقام الأول من السلم الموسيقي الموريتاني. وهو ظهر الفرح وبه يبدأ الفنان مجلسه الموسيقي، وينقسم بدوره إلى قسمين:
أ ـ كر ّلكحل": وبه تكون الأوتار الموسيقية تميل إلى الصوت الأسود مصطلحا عندهم، حيث يغنى فيه من الشعر الحساني (لغن) بأبحر (ابتوتة) محدودة ك"امريميدة" الكحلة و"الواكدي" ويتناسب مع أبحر شعرية أخرى فصيحة كالوافر مثلا، وسنورد مثالا على ما يغنى فيه من (لغن):
من "امريمده":
صيدات عاكب ملكانَ ... كالولك اني نبغـيهمْ
الله يعمـــل مـــــــــــــــــــــولانَ ... يعفي اعلي واعليهمْ
ومن "الواكدي":
لبلاك بالحَــــلفَ غلظلُ افتيلك ... والغلْظ للًهْ والعبد الا امثيلك
يل اتشوف اعشاك من وجه امكيلك ... عياط لحــصيد الا اهجان
وأخير من ليل الناس اتكول لـيلك ... كوم احمـارك راص اسفان
ب ـ كر "لبيظ": وهو (سيني) ويغلب عليه طابع الاسترخاء في الشدو، وهو أيضا بدوره يتناسب عندهم مع أبحر أخرى ك "بوعمران" ومن الفصيح "البسيط" وغيره من الأبحر التي تمتاز بالقوافي الممدودة موسيقيا. وسنورد مثالا على ما يغنى فيه من (لغن) الحساني:
من:"بوعمران":
يالرب ارحم يالرحـيم ... شيخ راحم باعيالك كان
ما يجلج مسلم واكريم ... اٌراسخين افــكلب لمان
2ـ "فاغو":
وهو المقام الثاني من المقامات الموسيقية الموريتانية يمتاز بالحماسة واستعظام النفس والشدة في الترجيع (الردات) وينقسم إلى لونين هو الآخر:
أ ـ "فاغو" (لكحل) وهو مقام الحماسة عندهم، وقد كانوا ينشدونه قديما في الحروب لحملهم على الضراب، وغالبا ما ينتصب فيه الشادي واقفا ليتناسب الوقوف مع الحماسة المطلوبة. وينشد عندهم للشيخ والأمير وصاحب المنزلة ودخول العريسين إلى قاعات الحفل الزواجي... وينشد فيه من الشعر الحساني "البت الكبير" و"مومايت البت الكبير" و"اتكسري" و"الرسم" و"مومايت الواكدي" وهي أبحر حسانية تستخدم عادة لغرضي: الفخر والحماسة، كما تنشد فيه أبيات من الشعر الفصيح، بل ويغلب فيه انشاده (الرمل، والرجز...).
ب ـ فاغو (لبيظ) وهو (سيني فاغو) ففيه تنزل حدة الترجيع (الردات) وتستوي النغمات الموسيقية ليأخذ الشادي في إنشاد أشعار تتناسب مع الشوق والوجدان وتذكر الماضي، وفيه ينشدون بحرا واحدا من الشعر الحساني (لغن) وهو بت "لبتيت التام"، ومثاله:
لحباب ابعادُ يالــجواد ... الكبلِ منهم والتـلّ
واكرابُ لوكـــار ألّ زاد ... هوم هوم لوكار ألّ
ومن الفصيح كل بحر يجد الفنان فيه القافية "الطويلة" لتسمح له بنفس أطول يتلاءم مع طبيعة المقام.
3ـ لكحال:
وهو المقام الثالث من المقامات الموسيقية الحسانية، وهو أيضا مقام من مقامات الشوق، والجزء الأول من ظهر (سنيمة) يمثل الجانب الأسود، وفيه ينشد بحر واحد من الأبحر الشعرية الحسانية (لغن) وهو (اسْغيَرْ) بنوعيه (العادي) و"تيكادرين" مثال ذلك:
من "اسْغَيرْ" :
حد امنكز بعد مـيدي ... ذاك الا كـافيـه
خديجة منت سـيدي ... لَا شارات اعليه
وقبل أن ندخل في تفاصيل المقام الموالي وهو مقام (لبياظ) سنورد هنا لونا آخر لا يعدونه مقاما مستقلا بذاته، ولكنه بمثابة الجسر الفاصل ما بين المقامين وهو:
ازراك: الذي يعتبر لونا طارئا يخلط ما بين النغمتين "البيظة" و"الكحله" فيمزج فيه المغني بين الترجيعة ذات الطابع "الأكحل" والطابع "الأبيض" ويغلب فيه الغناء بالشعر الفصيح وقد يغنى فيه بلبير مثلا:
لحت العين اعلَ تيوْشات ... واعلَ بخواك وانزوات
ظلت دمعـتها ماركات ... لازمْهَ تـــعرف لامَ
كانت تلتم او لاتــلات ... تلتم إيــل القيــام
4ـ لبياظ:
وهو المقام الرابع في السلم الموسيقي الحساني، وهو أقوى المقامات تناسبا مع ذوق الجميع، وهو المقام الذي إذا جمعنا بينه وبين المقام السابق (لكحال) سمي المقامان ب"سنيمة" وهو - أي لبياظ- قسمها الثاني. وتفصيلا فيه فإننا نقسمه إلى لونين هما:
أ- لبياظ العادي ويغنى فيه بأبحر (ابتوته) لبير بأنواعه، مثلا:
لبير العادي:
لعاد البيك الا اشـواش ... ولل عكـــل بيان
عز اغلان ذكاع لاش ... كامل من عز اغلان
ابير "تاطرات":
ماخالك نـوم اولاكعاد ... اغلان ظفرت ظـالل
مرت بالعكل الين عاد ... فاصل فاحجاب الظالل
ابير"تيكادرين":
نعرف ليل فوك زيرَ ... كاعد بينات اشويبتــين
بين البدع اوبامـير ... لاهي ايغنولي ذاك زين
"مومايت"لبير":
هذ لبير افذي اطريكْ ... والبدع المـــاهُ زاحلْ
عاد امفكًدْن بآولـيك ... واهل الساحل من ساحل
ب- اللّيّن: وتتغير فيه النبرة الصوتية لتكون أكثر سلاسة، فينشدون فيه الأشعار الغزلية والنسيب وغيرهما مما رق أسلوبه وانسابت معانيه، كأشعار نزار قباني وامرئ القيس، وابن الملوح وغيرهم، وقد ينشدون فيه أيضا من الحساني "لبير" و"لبتيت" عند بعضهم، وقلما ينشد فيه غير الفصيح، ولا ترقى المسألة لدرجة القاعدة المتبعة.
5ـ لبتيت(بيكي):
وهو المقام الخامس والأخير، حيث يتلاءم مع الحزن والشوق أحيانا وينقسم إلى قسمين:
أ- لبتيت لكحل (بيكي لكحل) وفيه "تشد" الأصوات الوترية لينشد فيه ببحر "لبتيت": (التام، والناقص)، وغيرهما من "ابتوتة" مجموعة "لبتيت"، ويكون فيه (آمنكري) الترجيع عاليا جدا وسنورد مثالا على "البتين" اللذين ينشدان هنا في الغالب:
مثلا: "لبتيت" التام:
حد أصيل افتــكانت شام ... نافدها لاكي عنها عـام
واعمل بلــياليه او لـيام ... لين الحك منه بل امنيـن
عاد ايبانولو روص اخشام ... اطرك تكانـت متحديـن
ينبـاو اويغباو افــلغمام ... اوهومَ كاع الامشيوفيـن
ما يبك شوق ادرس ما كام ... اولايبك فالعينين اخزيـن
اولا يبك منـثور افلـكلام ... ما جاو الفاظُ منظوميـن
يبكَ ما ودَّ حـق اتـراب ... ماه كيف اتراب اخرَ زين
اولا حق املي زاد احباب ... ما ينجبرو فابلاد اخريـن
"لبتيت" الناقص:
بسملحيل ذا الفات ... ننساه افعرفـات
من لمكيل اولمبات .. الليِ ماهو حافِ
واجماع واشويات ... ننساهم!؟ باخلاف
هذا ماني ناسيه .. او لاني منو واف
وايتم الي خاطيه ... فخلاكي فيـاف
ب- "لبتيت" (لبيظ): وفيه تظهر الرخوة والانسياب على الترانيم الموسيقية كما تظهر على شدو المغني فيبدأ بالغناء بما يتلاءم مع طبيعة المقام الوجدانية ويغلب فيه الترديد لأشعار الشوق والرثاء وغيرهما، وينشد فيه من الشعر الحساني بمجموعة لبتيت كلها وسنورد بعضها - من المغنى به في هذ المقام- فيما يلي إكمالا للفائدة وقد أوردنا منها "البتين" السابقين ("لبتيت" التام، والناقص) والبقية نماذجها فيما يلي مرتبة حسب عدد المتحركين:
"احويويص" (بت اربعة):
حزمك يمنـــت ... الناس أحمَ
من شِ للمــتــــــــــعين لعـــــم
"حثُ اجراد" (بت خمسه):
مريم بالثبات ... عنه دلالـي
انزكتو مرات ... يغير ابـال
وبذلك نكون قد أكملنا الترتيب العام والواقعي الذي يسلكه المغنون الموريتانيون.
*- يعتبر هذا الترتيب الذي أوردناه هو الترتيب السليم والمتبع عموما في هذه الموسيقى الحسانية. فالفنان إذا ما أراد في بعض الاستثناءات أن يبدأ بمقام ليس هو المقام الأول مثلا (فاغو) فإنه سيواصل مع بقية المقامات بالترتيب ولا يصح عندهم قلب هذا السلم فذلك خرق للعادة والذوق.
*- كثيرا ما يبدأ المغني في كل هذه المقامات بالهيللة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم استفتاحا كما يختم أيضا كل قطعة غنائية (الردات) بذلك.
*- المقاطع الموسيقية الموزونة التي تخضع لإيقاعات موسيقية وأخرى مصدرها آلة الطبل هي: (الأشوار) أو(انحاي) وتكون كلماتها حسانية وهي (الأشوار) وعربية فصيحة وهي (انحاي)، وتلك الكلمات هي المسماة عندهم ب (ظهْر الشَوْرْ) وتتردد هذه الكلمات ما بين "الكيفان" وعلى لحنهم، كما أن "الكيفان" أيضا يكون رويهم في الغالب على نفس روي الكلمات مثال ذلك ما يلي:
"يَوْكِي الً انْحَجُ بَحْرَ الِنيْلْ"
فهذا هو (ظَهْرٌ الشًوْرِ) يتركب من ثمانية متحركين، ورويه لام ساكنة بعد سكون ميت بالياء، فجاءت الكيفان في الشور على نفس المنوال مثال:
يَلْعَكْلَ اَلًا تَمْ الشَّـــظَّفْ ... سابَكْ تَلْكَ سِبَّتْ لَكْتِيْلْ
وَامْنَيْنْ اتْراهَ زَادْ اَعْرَفْ ... عَنْ مَتَـاعْ الدُنْيَا قَلِيلْ
فقد جاء روي الكاف على روي الكلمات "ظهر الشور": لام ساكنة وقبله سكون ميت بالياء، وقد نجد (شورا) كلماته أو كيفانه من بحر لا يغنى في ذلك المقام الذي لُحِّنَ (الشور) فيه، وذلك لأن (الأشوار) المغناة لا تخضع لتلك القاعدة فنجد أغنية (شورا) كلماته من "لبير" مثلا ويغنى به في مقام "كر" مثلا وقس على ذلك.
*- الأداء عند المغنين (إيكاون) دائما يكون مرتبطا بجلسة أدبية يحضرها الجميع، وهو ما يجعل هذا الفن يمتاز عن غيره بإشراك المستمع الحاضر، فيبدأ الشعراء بقرض "الكفان" في نفس الغرض الذي تتناوله كلمات (الشور) وقد يخرجون على ذلك فيتغزلون بالحاضرات من نساء مغنيات وغيرهن، ويشيدون أحيانا بأداء الفنان أو الفنانة وليس في ذلك من حرج عندهم.
محمدفال سيدنا - كاتب وباحث
جميع الحقوق محفوظة لموقع الموزون 2013.