الكاتب والباحث: محمد فال سيدنا.
تمتاز الثقافة "الحسانية" باحتوائها رصيداً وافراً من الحِكَم والأمثال التي يتناقلها الناس بشكل واسع، وتَلُوكُها ألسنتهم ــ يوميا ــ في درج الكلام تعضيدا لصحته واستشهادا، ومن هذه الأمثال والحِكَم ما
جُهل قائلها، بينما عُرفت قصصُ بعضِها مع الأشخاص المنسوبة إليهم، وتواتر على ذلك "الحكواتيون" والمؤرخون أحيانا. وقد يساهم تناول هذه القصص والحكايات ــ تأريخا لتلك الأمثال والحكم ــ في نفض الغبار عن حقبة تاريخية مهمة من حياة الوطن الحبيب...
وإليكم قصة المثل الحساني الشائع:"الستْرَ ماهِ ضامنَ أَزَگالْ":
يحكى أن أميرا من "أولاد امبارك" ــ وأرجح الروايات أنه الأمير خطري ولد أعمر ولد أعلي الذي تولى الإمارة نحو 1829 ومات مقتولا 1841 في حرب وقعت بين أبناء العمومة من بني هنون لعبيدي ــ كانت له فرس تدعى "الْمَزُّوزَه" من فصيلة عتيقة عند القوم، وكان لها سائس يدعى: "بَيْدالِّي" يقوم على سياستها وحراستها، وقد كانت "إمارة إيدوعيش" تكن العداء لإمارة "أولاد امبارك" في ذلك الزمان، فأرادت أن تحوز الفرسَ المذكورة لِما تمتاز به من "رمزية" لدى "أولاد امبارك"، ولايصح ذلك إلا بخطفها من مرابعهم في أقصى الشرق (الحوضين).
فاختارت قبيلةُ "إيدوعيش" رجلا منها يدعى "عُمَرَاَبَّيْلِي" لتكليفه بالمهمة الصعبة، وأمهلته سنة كاملة لتنفيذها، وكان الرجل حاذقا وداهية يستطيع تقمص العديد من الأدوار لاتساع ثقافته من علوم شرعية إلى عزف وغناء... فذهب إلى "أولاد امبارك" في إمارتهم، وقدم لهم نفسه بصفته معلما للقرآن، فقربه الأمير وجمع له الأطفال لتدريسهم القرآن وبعض العلوم الشرعية، وصار يُدعى بينهم: "َاَطْوَيْلَبْنَا": وهي عبارة عن تصغير كلمة "طالبنا" اللقب الذي يطلق في تلك البلاد على مدرس القرآن.
وبعد مدة قاربت السنة وبينما كان "بيدالي" (سائس الفرس) يسقيها من قربة أمام الخيمة إذْ فاجأه "عمرابيلي" بقوله:
ــ ناوِلْني قلادة الفرس التي بعنقها لأحبسها لك حتى تشرب، وأتركَ لك القربة لتصب الماء للفرس في الحوض، وقد كان يروم من وراء ذلك اختطاف الفرس التي جاء من أجلها، لكن "بيدالي" كان فطِنا ولم يقبل الصفقة حينها قائلا بتهكم وتحمس:
ــ لا قدر الله أن أستبدل الأخذَ بقلادة "المزوزة" بالأخذ بوكاء قربة بالية...
فأسر "عمرابيلي" في نفسه خجلا وحرجا، وعزم على تنفيذ مهمته التي جاء لأجلها نفس الليلة قبل أن يُكْشَفَ أمره.
وكان أمراء "أولاد امبارك" ينامون وسط حراسهم على "خبطة" (أريكة تصنع من سعف النخل ونحوه) يكون تحتها "تيدناتن طايبات افْلَكَّتْرِي (ارديف "جينَّه": ابياظ الجانبه البيظه)"، فيصْحَون في الصباح على وقع الترانيم في نفس المقام الموسيقي، ولذلك يطلق على هذا المقام الموسيقي: صَبوح أولاد العالية، وهم فخذ من القوم.
وفي تلك الليلة المقمرة بينما كان الجميع يغطون في نوم عميق، وكلبهم باسط ذراعيه قرب الفرس، تسلل "عمرابيلي" إلى مربطها، وفَكَّ رباطها من العمود، واعتدل على ظهرها فقفزت به حتى سقط، ثم نبح الكلب واستيقظ الحراس ليشدوا وثاق "عمرا ابيلي "(اطويلبنا) حتى الصباح فينظر الأمير في أمره.
هَمَّ الرجل لذلك واغتم خوفا من جزاء فعلته حين يستيقظ الأمير، وفور انكشاف الظلام تبينت له من تحت "الخبطة" آلة "التيدينيت" فتناولها بصعوبة لأن يديه مشدودتان بوثاق، وأخذ يداعب أوتارها في مقام "لَكَّتْرِي"، ثم عزف "الشور" المعروف: "المشوش" لأول مرة (هو أول من عزفه) وبدأ يغني: "يانا هاه يالمشوش، يانا هاه يالمشوش!"، وهي كلمات تدل على بعده من أهله وحزنه لِما أصابه، وكأنه يتوجع ويستعطف الأمير بذكر حاله...فانتبه الأمير "خطري" من نومه والتفت إليه متعجبا وقال:
ــ "اطويلبنا" انت عايد إيگيوْ(فنان)؟!، وطرق الأمير برهة يستمع ويستمتع بأداء "عمرابيلي" الشجي، وحين انتهى من المعزوفة سأله عن قصته الكاملة، فذكر له ما كان من أمر الفرس والمهمة التي جاء لأجلها من قبيلة "ايدوعيش" لخطف "المزوزه".
فغضب الأمير وقال له: " لم لا تطلبها منا حين قدمت؟؟ فلن نمنعك أي شيء تسأله، وأمر الحراس أن يعطوها له وابنتها فورا.
ركب "عمرابيلي" الفرس رَأْدَ الضحى، وبدأ رحلة العودة إلى إمارة "إيدوعيش"، وفي الطريق توقف فنظر إلى الفرس فتعجب من حسنها وأصالتها، وقال في نفسه:
ــ لماذا أرحل عن هذا الأمير الذي يعطي مثل هذه الفرس؟؟ والله لأعودن إليه وأعيش بجنبه مكرما...وكان الأمير حين أعطى الفرس ل "عمرآبيلي" قد التفت إلى القوم وقال:
ــ "ذو الناس ألي عادت عندهم المزوزه أمنتها ماتلاو ينقربو"، في إشارة إلى الحرب التي لطالما دارت رحاها بين الإمارتين يومئذ.
وبينما كان الأمير يتكئ على "خبطة" وسط جمع من قومه في الهجير من نفس اليوم إذا بالمهر(ابنة المزوزه) تعدو في خبب تتجه نحو مربطها وتحمحم، فظن أن "المزوزة" قد أسقطت الرجل في فلاة وعادت إلى الحمى. وجلس ينظر عَلَّها ـ أي المزوزه ـ تلوح له.
وبينما هو في ذلك الحال إذْ ظهر ت له "المزوزة" وعلى ظهرها "عمرابيلي" تعدو به حتى وصل الخيمة التي بها الأمير، ثم نزل عنها فبادره الأمير:
ــ ما الخطب؟!، رد عليه: ياسيدي لقد فكرت وقلت في نفسي: لن أرحل أبدا ما حييت عن هذا الأمير الذي يعطي هذه الفرس وابنتها ولا يبالي...
حينها التفت الأمير إلى القوم وقال كلمته التي صارت مثلا: "السترَ ماهِ ضَامْنَ أَزَگالْ".
وهو في الحث على الكرم والمروءة وذم البخل...
تلك هي الرواية الأرجح، والله أعلم.